التكنولوجيا الأثمة وتأثيرها على الحياة العملية
لم تعد التكنولوجيا مجرد أدوات مساعدة في حياتنا اليومية، بل أصبحت جزءًا أساسيًا من طريقة عملنا وتواصلنا واتخاذنا للقرارات. لكن مع هذا الانتشار الكبير ظهرت مشكلة جديدة: التكنولوجيا الآثمة أو التكنولوجيا غير الأخلاقية؛ أي الاستخدامات التي تتعارض مع القيم الإنسانية، وتؤثر سلبًا على خصوصيتنا وكرامتنا وصحتنا النفسية وسلامة بيئة العمل.
في هذه المقالة سنحاول فهم ما المقصود بالتكنولوجيا الآثمة، وكيف تتسلل إلى الحياة العملية، وما النتائج المترتبة عليها، والأهم: كيف يمكننا التعامل معها بوعي ومسؤولية.
أولًا: ما المقصود بالتكنولوجيا الآثمة؟
التكنولوجيا في ذاتها ليست خيّرة ولا شريرة؛ هي مجرد أداة. لكن عندما تُستخدم بطريقة تنتهك حقوق الناس، أو تستغل ضعفهم، أو تهمّش فئة لصالح فئة أخرى، تصبح تكنولوجيا آثمة.
يمكن أن نعرّف التكنولوجيا الآثمة بأنها:
كل نظام أو برنامج أو منصة رقمية تُطوَّر أو تُستخدم بطريقة تلحق ضررًا ماديًا أو معنويًا بالإنسان، أو تنتهك خصوصيته، أو تقلل من إنسانيته ومكانته.
أمثلة على التكنولوجيا الآثمة
- أنظمة مراقبة للموظفين تسجل كل حركة وكل نقرة وتحوّل بيئة العمل إلى سجن رقمي.
- خوارزميات توظيف متحيّزة تفضّل جنسًا أو عِرقًا أو عمرًا معيّنًا دون معايير عادلة.
- منصات عمل حر تعتمد على “خوارزميات عقابية” تضغط على العامل لزيادة الإنتاجية دون مراعاة صحته ووقته.
- تطبيقات تستخدم تصميمًا إدمانيًا (إشعارات، نقاط، ترتيب ألوان) لإبقاء المستخدم أطول فترة ممكنة على حساب تركيزه وحياته الخاصة.
- أنظمة ذكاء اصطناعي تُستخدم في التشهير أو ابتزاز الأشخاص عبر التزييف العميق (Deepfake).
ثانيًا: كيف وصلت التكنولوجيا إلى هذه الدرجة من الخطورة؟
هناك عدة عوامل تسببت في صعود التكنولوجيا الآثمة، من أهمها:
-
سباق الربح السريع
كثير من الشركات التكنولوجية تركّز على الربح قبل الإنسان، فتُصمَّم الأنظمة لزيادة الوقت الذي يقضيه المستخدم أو زيادة إنتاجية الموظف بأي ثمن.
-
ضعف التشريعات
التطور التقني أسرع بكثير من القوانين. ما زالت العديد من الدول لا تمتلك قوانين واضحة لحماية البيانات أو تنظيم الذكاء الاصطناعي والمراقبة في بيئة العمل.
-
نقص الوعي لدى الأفراد
كثير من الموظفين والمستخدمين يوافقون على سياسات الخصوصية دون قراءة، ويسمحون للتطبيقات بجمع كمية هائلة من البيانات دون إدراك لخطورة ذلك.
-
إغراء التحكم والسيطرة
التكنولوجيا تمنح أصحاب الأعمال قدرة هائلة على مراقبة كل شيء، وهذا الإغراء يدفع بعضهم لاستخدام أدوات تتجاوز الحدود الأخلاقية.
ثالثًا: تأثير التكنولوجيا الآثمة على الحياة العملية
1. تأثيرها على الموظف الفرد
أ. انتهاك الخصوصية
- برامج تراقب الشاشة والكاميرا ووقت الكتابة على لوحة المفاتيح.
- تتبع مكان الموظف عبر GPS حتى بعد انتهاء ساعات العمل أحيانًا.
هذا النوع من المراقبة يشعر الموظف أنه مُتهم دائمًا وعليه أن يثبت براءته بالنشاط المستمر، فتختفي الثقة ويزداد التوتر.
ب. الضغط النفسي والاحتراق الوظيفي
الأنظمة التي تحسب كل ثانية تأخير، وكل مهلة بين المكالمات، وعدد المهام المنجزة، تخلق بيئة عمل لا ترحم.
النتيجة:
- قلق مستمر من فقدان الوظيفة.
- إحساس دائم بعدم الكفاية.
- احتراق وظيفي مبكر وفقدان الشغف.
ج. تشويش الحدود بين العمل والحياة الخاصة
التطبيقات والبريد الإلكتروني والإشعارات لا تتوقف حتى بعد الدوام. يصبح الموظف متصلًا طول الوقت، فيفقد:
- وقت العائلة.
- وقت الراحة.
- التركيز على حياته الشخصية.
د. التمييز في فرص التوظيف والترقية
إذا كان نظام التوظيف مبنيًا على خوارزمية متحيزة، قد يُقصى أشخاص فقط لأنهم من منطقة معيّنة أو لأن سيرتهم الذاتية لا تحتوي كلمات مفتاحية محددة.
هنا تتحول التكنولوجيا من أداة للإنصاف إلى أداة لتكريس الظلم.
2. تأثيرها على بيئة العمل
أ. تدمير الثقة
عندما يشعر الموظفون أنهم مراقبون طول الوقت، ينخفض مستوى الثقة بينهم وبين الإدارة.
- تسود ثقافة “راقب بدل أن تثق”.
- وتسود أيضًا ثقافة “نفّذ الأوامر ولا تسأل”.
ب. تحوّل الإنسان إلى رقم
مع الوقت يصبح تقييم الموظف معتمدًا فقط على الأرقام:
- عدد الاتصالات.
- سرعة الرد.
- عدد التذاكر المغلقة.
بينما تختفي معايير مثل:
- التعاون مع الزملاء.
- الأخلاق في التعامل مع العملاء.
- الإبداع والابتكار.
ج. ضعف العلاقات الإنسانية
الاعتماد المفرط على الشاشات وأنظمة التواصل الداخلية يقلل من اللقاءات الحقيقية، فيضعف الانتماء للمؤسسة. بيئة العمل تصبح سلسلة من “المهام” أكثر منها مجتمعًا من البشر.
3. تأثيرها على أصحاب الأعمال والإدارة
قد يظهر للمدير أن التكنولوجيا الآثمة تمنحه قوة:
- إنتاجية أعلى.
- بيانات أكثر.
- تحكم أدق في الوقت والمهام.
لكن على المدى البعيد، هناك آثار عكسية:
- ارتفاع معدل دوران الموظفين بسبب الضغط والإجهاد.
- سمعة سيئة للشركة بين المرشحين للعمل والعملاء.
- مخاطر قانونية في حال انتهاك قوانين الخصوصية أو العمل.
- انخفاض الإبداع لأن الموظف الخائف لا يجرؤ على تجربة أفكار جديدة.
رابعًا: أمثلة واقعية قريبة من حياتنا
1. مركز الاتصال تحت المراقبة
تخيّل موظفة تعمل في مركز خدمة عملاء، برنامج على حاسوبها يحسب عدد الثواني بين كل مكالمة وأخرى، ومدة ذهابها للحمام، ووقت كتابتها على لوحة المفاتيح. مع مرور الوقت تشعر أنها آلة لا إنسانة، وتفقد أي متعة في العمل، فقط تحاول الهروب من العقوبات الرقمية.
2. تطبيق التوصيل والخوارزمية القاسية
عامل توصيل يعتمد على تطبيق يعطيه الطلبات. إذا رفض طلبًا بعيدًا يتم تخفيض تقييمه تلقائيًا، وإذا تأخر بسبب زحمة السير يُسجَّل هذا التأخير ضده. الخوارزمية لا ترى الظروف الإنسانية؛ كل ما يهمها هو الأرقام.
3. نظام توظيف يرفض السيرة الذاتية قبل أن يقرأها إنسان
شركة كبيرة تستخدم نظام ذكاء اصطناعي لتصفية السير الذاتية. إذا لم يجد النظام كلمات معينة، يرمي السيرة في سلة المهملات الرقمية. قد يُرفض مئات الأشخاص المؤهلين دون أن يراهم مدير الموارد البشرية ولو مرة.
خامسًا: التكنولوجيا الآثمة والقيم الإنسانية
الحياة العملية ليست فقط إنتاجية وأرباح؛ هي أيضًا:
- كرامة.
- عدالة.
- رحمة.
- تعاون.
التكنولوجيا الآثمة تهدد هذه القيم عندما:
- تجعل العامل يشعر أنه أقل من الآلة.
- تكرّس التمييز بين الناس.
- تحوّل الخطأ البشري الطبيعي إلى “جريمة رقمية” لا تُغتفر.
في المقابل، التكنولوجيا المسؤولة تحترم الإنسان، وتساعده على العمل بشكل أفضل دون سحقه أو استغلاله.
سادسًا: كيف نحمي حياتنا العملية من التكنولوجيا الآثمة؟
1. على مستوى الفرد (الموظف أو العامل)
-
الوعي بالحقوق
- اعرف ما إذا كان من حق الشركة مراقبة أجهزتك أو لا.
- اقرأ سياسات الخصوصية واللوائح الداخلية المرتبطة بأنظمة العمل.
-
وضع حدود رقمية واضحة
- إيقاف الإشعارات الخاصة بالعمل بعد ساعات الدوام قدر الإمكان.
- استخدام أجهزة منفصلة للعمل والحياة الشخصية إذا أمكن.
-
تطوير مهارات يصعب أتمتتها
مثل:
- التفكير النقدي.
- حل المشكلات المعقدة.
- التواصل الفعّال.
- الإبداع.
هذه المهارات تقلل من احتمالية استبدالك بخوارزمية بسيطة.
-
رفض الممارسات المهينة بالحوار
- من حقك مناقشة مديرك في أي أداة مراقبة جديدة.
- يمكن اقتراح بدائل تحافظ على الخصوصية وتحقق أهداف العمل في نفس الوقت.
2. على مستوى الشركات والمؤسسات
-
تبنّي ميثاق أخلاقي للتكنولوجيا
يتضمن تحديدًا واضحًا لما هو مسموح وغير مسموح في مراقبة الموظفين وجمع بياناتهم، مع إشراك الموظفين في اتخاذ القرار عند إدخال أنظمة جديدة.
-
الشفافية
إبلاغ الموظفين بما يُجمَع من بيانات وكيف تُستخدم، والسماح لهم بالاطلاع على البيانات الخاصة بهم وتصحيحها.
-
تقييم الأثر قبل تطبيق أي تقنية
دراسة تأثير النظام الجديد على صحة الموظفين وكرامتهم، وليس فقط على الكلفة والربح.
-
الاستثمار في التدريب بدل المراقبة المفرطة
كلما كان الموظف متمكنًا وواثقًا من نفسه، قلّت الحاجة للمراقبة المستمرة.
3. على مستوى الحكومات والمشرّعين
- إصدار قوانين لحماية البيانات الشخصية.
- وضع ضوابط لاستخدام الذكاء الاصطناعي في التوظيف والمراقبة.
- تشجيع الشركات التي تطبق معايير أخلاقية عبر حوافز وضريبية أو أولوية في العقود.
4. على مستوى التعليم والمجتمع
- إدخال موضوع الأخلاقيات الرقمية في المناهج والبرامج التدريبية.
- نشر ثقافة “الإنسان أولًا” في التعامل مع أي أداة تقنية.
- تشجيع النقاش العام حول مخاطر التكنولوجيا الآثمة، بدل القبول الأعمى بكل جديد.
سابعًا: الفرق بين التكنولوجيا الآثمة والتكنولوجيا المسؤولة
| العنصر | تكنولوجيا آثمة | تكنولوجيا مسؤولة |
|---|---|---|
| الهدف الأساسي | الربح أو السيطرة بأي ثمن | تحقيق منفعة مع احترام الإنسان |
| طريقة جمع البيانات | خفيّة، مبالغ فيها | محدودة، شفافة، بموافقة المستخدم |
| تقييم الموظف | أرقام فقط، دون سياق إنساني | مزيج بين البيانات والتقييم البشري |
| أثرها على الصحة النفسية | قلق، ضغط، شعور بعدم الأمان | دعم، وضوح، شعور بالثقة |
| علاقتها بالقيم والأخلاق | تتجاهلها أو تتعارض معها | تنطلق منها وتُبنى في ضوئها |
خاتمة
التكنولوجيا ليست قدرًا محتومًا؛ هي أداة في أيدينا. يمكن أن نبني بها بيئة عمل أكثر عدلًا وراحة وإنسانية، ويمكن – إن تركناها بلا ضوابط – أن تتحول إلى تكنولوجيا آثمة تُتعب أجسادنا وتستنزف أعصابنا وتشوّه علاقتنا بالعمل.
المطلوب اليوم ليس رفض التكنولوجيا، بل تطويعها لخدمة الإنسان، ووضع حدود واضحة حتى لا تتحول الحياة العملية إلى سباق قاسٍ تحكمه الخوارزميات. كل واحد منا له دور: موظفًا كان أو مديرًا أو صاحب قرار، وكل خطوة صغيرة نحو استخدام أخلاقي للتقنية هي مساهمة في بناء مستقبل عملي أكثر إنصافًا وإنسانية.

